الفصل السادس: الأدلة العقلية علي وجود المس
يقول الشيخ محمد حامد : إذا كان الجن أجساما لطيفة لم يمتنع عقلا ولا نقلا سلوكهم في أبدان بني آدم فإن اللطيف يسلك في الكثيف كالهواء مثلا فإنه يدخل في أبداننا وكالنار تسلك في الجمر وكالكهرباء تسلك في الأسلاك بل وكالماء في الأتربة والرمال والثياب مع أنه ليس في اللطافة كالهواء والكهرباء .
قال : وقد وقف أهل الحق موقف التسليم للنصوص المخبرة بدخول الجن أجساد الإنس وقد بلغت من الكثرة مبلغا لا يصح الانصراف عنه إلى إنكار المنكرين وهذيانهم ،فإن الوحي الصادق قد أنبأنا هذا وإن الإذعان له يقتضيه دون ما تأويل سخيف يخرج بالنصوص عن صراطها إلى تعريجات لا يسلم معها إسلام ولا ينعقد بها اعتقاد صحيح وهو الإيمان المجزئ المنجي من نار الخلود في الآخرة .
قال: ووقائع سلوك الجن في أجساد الإنس كثيرة مشاهدة لا تكاد تحصى لكثرتها فمنكر ذلك مصطدم بالواقع المشاهد وأنه لينادى ببطلان قوله )
قال القاضي عبد الجبار الهمذانى : (إذا صح ما دللنا عليه من رقة أجسامهم وأنهم كالهواء لم يمتنع دخولهم في أبداننا كما يدخل الريح والنفس المتردد الذي هو الروح في أبداننا من التخرق والتخلخل ولا يؤدى ذلك إلى اجتماع الجواهر في حيز واحد لأنها لا تجتمع إلا عن طريق المجاورة لا على سبيل الحلول وإنما تدخل في أجسامنا كما يدخل الجسم الرقيق في الظروف )
قلت:يقال إن الذين يبحثون في علم أوفي أمر إخراج الجان وأحواله وصرعه للإنسان ويقسمونه تقسيمات و حالات وأعراض ومراحل علاج مختلفة وتصنيفات –انتقام –وعشق وافتراء. . .
وغير ذلك ليس لهم دليل على ذلك وإنما هذا كذب وبهتان وإتباع الظن ؟
والرد: أن الجان عالم غريب خفي عنا لا نراه ولا نعلم عنه شيئا إلا ما أعلمنا الله به أو رسوله (r) فمن خلال القرآن علمنا : أن الجن ترانا ولا نراها (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) .
والقرآن أيضا علمنا : أن الجن فيهم إبليس يقول الكذب و الافتراءات كما قال ذلك الله في سورة الجن (أنه كان سفيهنا يقول على الله شططا ) وغير ذلك مما ورد في القرآن .
أما السنة فقد وردت فيها أحاديث كثيرة والتي ذكرناها في الباب الأول والتي توضح أن الجن يأكلون ويشربون وينامون ويتناكحون ويتناسلون ويخافون ويحبون ويكرهون ويعقلون ويفكرون ومنهم الذكور والإناث ومكلفون ومنهم القوى والضعيف وتقسيمات وأوصاف كثيرة غير هذه التي توضح أن الجن خلق عاقل .
ولكن هناك من يعترض ويقول (هذه التقسيمات- وهي أعراض وعلاج حالات الإصابة بجن - باطلة لأنها وردت عن عالم غيبي ولم ترد نصوص صريحة بذلك ).
قلت :هذه التقسيمات هي ما لا حظه العلماء المعالجين بالقرآن مما يظهر على الحالات المختلفة أي أن هذه الأشياء ما هي إلا ملاحظات وليست أصول ثابتة لا تتغير ولا تتبدل وهذه هي وظيفة العقل الذي و هبه الله للإنسان فعندما كان العلماء المعالجون يسألون المريض بماذا يشعر وجدوا أن المرضى جميعا يذكرون أنهم منذ فترة وفجأة يكرهون الصلاة والقرآن و الأذان من المسجد عندما يسمعونه يشعرون بضيق شديد وكثير منهم يجمع على أحلام منامية تأتيه متكررة ومفزعة وبتركيبات متماثلة في المشاهد المحتوى عليها الحلم ومنهم من يذكر الصراخ ليلا أو الضحك نهارا بدون سبب واضح وكثير من هذه الأعراض التي سوف نذكرها لاحقا .
وعندما يبدأ في العلاج وينطق الجني ويسأل عن سبب دخوله في المريض منهم من يقول –انتقاما أو افتراء أو عشقا ، - وغير هذه الأسباب التي لا حظها العلماء المعالجون من تكرارها على لسان الجن ولكن يقول البعض إن هذا لا يجوز لأن الأصل في الجن الكذب لأن النبي قال لأبى هريرة (صدقك وهو كذوب )إذن الأصل فيه الكذب .
قلت :هذا صحيح أن الأصل فيه الكذب ولكن ربما يصدق كما فعل مع أبى هريرة (رضي الله عنه ) ويصدق معنا فليس معنى أنه كذوب وهى صيغة مبالغة على وزن (فعول ) أنه يظل حياته دائما لا ينطق صدقا أبدا ولكن هذه المبالغة دليل على كثرة الفعل وتكراره لا على أبدية الفعل ونعود فنقول (ربما يصدق ) فإنهم –أي الجن –عندما يقولون إن سبب صرعه للإنس مثلا (عشق) فإننا عندما نسأل (المريض أوالمريضة ) فإننا نجد الإجابة بأن المريض كلما ينام يحتلم أو كل يوم أو يومين وهذا يتكرر وبكثرة ولم يكن معهودا من قبل .
وإن قال الجن أن السبب (انتقام ) من الإنسي لأنه وقع عليه، أو رمى عليه شيئا ثقيل، نلاحظ على المريض أنه يحاول أن يلقى نفسه من مكان عال أو يحاول أن يقتل نفسه، أو يغمى عليه بصفة متكررة وغير ذلك.
وحتى نخرج من هذا الخلاف الذي ليس له داع لا بد أن نتفق على أشياء:
أولا: أن الصرع حقيقة معترف بها ولا تنكر أبدا.
ثانيا: أن الصرع مرض كباقي الأمراض .
والدليل : أن الأحاديث التي ذكرناها في باب إثبات الصرع نجدها محتوية على كلمة (لمم) مثلا قول الصحابي يا رسول الله (إن ابني هذا به لمم ) فكان رسول الله يمسك به ويتفل في فمه ويقول (أخرج عدو الله أنا رسول الله ) .
واللمم : معناه : الجنون أو طرف منه يعترى الإنسان .
والمرض: معناه: كل ما يخرج بالكائن الحي عن حد الصحة والاعتدال.
وبما أن اللمم الذي هو (الصرع) يخرج الإنسان عن صحته واعتداله إذن فهو مرض .
ومن هنا فلكل مرض أعراض، وللمرض درجات فحالات (بسيطة ومزمنة ) و إلا لم يكن مرضا .
ويقول البعض إن الجن عالم غيبي عنا فكيف نبحث فيه ونحن لا نراه كما يقول القرآن (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم )
قلت :لقد ذكرنا سابقا أن كل ما وصل إليه العلماء في هذا الموضوع ما هو إلا ملاحظات وإذا كنا لا نراه فليس هذا حائلا عن بحثه (كحالة مرض تصيب الإنسان فقط ) فنحن نبحث أشياء كثيرة لا نراها ولكن نشعر بأثرها كالكهرباء ،المجال المغناطيسي ،وأمراض كالفيروسات وأشياء أخرى كالذرة ومكوناتها الداخلية (الكترونات ونيترونات وبروتونات ) فكل هذه الأشياء نبحثها وندرسها بكل دقة ونحن لا نراها ولكن نشعر بأثرها ، فإن الطبيب يعالج المرض داخل القلب أوالمعدة أو الأمعاء وهو لم يراهم ولم يمس هذه الأشياء بيده – في الحالة التي أمامه – ولكن يشعر بها من خلال الأعراض الواضحة فيتعامل مع المرض بدون أن يرى الجوف أو يرى المسبب لهذا المرض إذن فليس عدم الرؤية عائق أمام البحث في هذا المجال .
ويقول البعض لم يرد عن الرسول (r) أنه أخذ يقول للمريض هل تشعر بكذا أو بكذا ( الأعراض) ثم قال له إن حالتك من نوع كذا (عشق –انتقام –افتراء . . ) ولكن كان يأتيه المريض فيقرأ عليه فقط دون ذلك .
قلت:إن العلماء:ى الله عليه وسلم جاء ليعطينا الدين فهو رسول، ولكنه (r) قال : (من استطاع أن ينفع أخاف فليفعل )رواه مسلم
فإن النبي يعلم أن القرآن شفاء للمؤمنين ولذلك كان يستعمله معهم ويتلوه عليهم حتى يشفيهم الله –سبحانه وتعالى –ويكتفي بذلك .
أما العلماء من بعد ذلك فأخذوا يجمعون الملاحظات حتى تراكمت عندهم وأصبحت بهذه الصورة التي تكاد تصبح معقدة والتي تستدعى أن كل حاله تدرس منفصلة ويرتب لها ترتيب كامل حتى يأذن الله بالشفاء على يد من يشاء من عباده مع اعترافنا بأن الأول أيسر وأسهل ولكن الثاني جعل هذا الأمر علما يدرس ويعلم ويجهل فلا ينكر فضله (عالم الجن أسراره وخفاياه . أبو البخاري صـ177-180 )
الفصل السابع: المنكرون لوجود المس
1- عن صفية بنت حيى رضي الله عنها أن النبي(r) قال : (إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم ) متفق عليه
استدل بعض العلماء بهذا الحديث على استطاعة الشيطان النفاذ في باطن الإنسان وبه استدلوا على إمكان وقوع الصرع.
يقول ابن حجر الهيثمي في كتابه (الفتاوى الحديثية ) بعد أن ذكر الحديث : (وبه يرد على من أنكر سلوكه في بدن الإنسان كالمعتزلة ) (الوقاية . وحيد بالي صـ 58)
2- قال شيخ الإسلام أبوالعباس ابن تيمية ( لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمداً(r) إليهم ، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن ، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى ،فهم مقرّون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك كما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك كالجهمية والمعتزلة وإن كان جمهور الطائفة و أئمتها مقرّون بذلك لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء عليهم السلام تواتراً معلوماً بالاضطرار، ومعلوما بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون ) (فتاوى ابن تيمية جـ19 صـ9)
3- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
ليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن بدن المصروع وغيره،ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذبه فقد كذب على الشرع ، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك) (مجموع الفتاوى جـ 19)
4- قال عمرو بن عبيد: (المنكر لدخول الجن في أبدان الإنس دهري )
قلت :ومن هنا نفهم أن الذين ينكرون المس ما هم إلا معتزلة أودهرية أوجهمية ،ولقد أردنا ذكر هذا الأمر لكي نكشف هؤلاء المكذبين الذين يتهمون المعالجين بالقرآن أنهم لم يعملوا بالشرع بل الشرع ينكر فعلهم ،فنقول له إذن أنت تقول برأي المعتزلة وأمثالهم أما نحن ، فنعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة.
الفصل الثامن : آراء أطباء الغرب عن المس
1- يقول العالم الأمريكي (كارنجتون )عضو جمعية البحوث النفسية الأمريكية في كتابه (الظواهر الروحية الحديثة )عن حالة المس : (واضح أن حالة المس هي على الأقل حالة واقعية لا يستطيع العلم أن يهمل أمرها مادامت توجد حقائق كثيرة مدهشة تؤيدها ،وما دام الأمر كذلك فإن دراستها أصبحت لازمة وواجبة ،لا من الوجهة الأكاديمية فقط ،بل لأن مئات من الناس وألوفاً يعانون كثيراً في الوقت الحاضر من هذه الحالة ،ولأن شفاءهم منها يستلزم الفحص السريع والعلاج الفوري ،وإذا ما نحن قررنا إمكان المس من الوجهة النظرية انفتح أمامنا مجال فسيح للبحث والتقصي ،ويتطلب كل ما يتطلبه العلم الحديث، والتفكير السيكولوجي من العناية والخدمة والجلد ) (الوقاية . وحيد بالي صـ 61)
2-ويقول الدكتور ( بل )في كتابه (تحليل الحالات غير العادية في علاج العقول المريضة ): لدينا الكثير الذي يصح أن نميط عنه اللثام، وعلى الأخص ما كان متعلقا بحالة المس الروحي باعتباره عاملاً مسبباً للأمراض النفسية والعصبية. ولقد ظهر أن المس الروحي أكثر تعقيداً مما كان يظن أولاً.
قال :ومع ذلك فحينما يأتي ممارسو القوة الروحية الحديثون بالعجب العجاب في طرد الشيطان ،أو الأرواح الماسة ومداواة المرض والمحزونين فلا يكون نصيبهم من بعض الأطباء إلا نظرة الزراية و الاستخفاف ) (الوقاية . وحيد بالي صـ 62)
3- ويقول الدكتور (جيمس هايسلون ) في كتابه عن المس : ( إنه تأثير خارق للعادة تؤثر به شخصية واعية خارجية في عقل شخص وجسمه ولا يمكن إنكار مكنة حدوث المس ) (الوقاية . وحيد بالي صـ 62)
4- ويرى بعض الأطباء كالدكتور (كار ويكلاند )أن الجنون قد ينشأ من استحواذ روح خبيث على الشخص المريض ، فيحدث اضطرابا واختلالاً في اهتزازاته .
5-وممن أقر أيضا بوقوع الصرع من الأرواح الخبيثة وأن الطب قد عجز عن علاجه الدكتور (باروز) أستاذ الأمراض العصبية في جامعة (مينا بولس ) بأمريكا والدكتور ( إلكسيس كاريل ) الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة.(الوقاية. وحيد بالي صـ 62)
6-ويقول الدكتور أحمد الصباحي عوض الله: ( الصرع النفسي أو المس الروحي هو من فعل الأرواح الخبيثة الأرضية، وعلاجه يكون بمقابلة الأرواح الشريفة الخيّرة العلوية لتلك الأرواح الخبيثة فتدفع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها وذلك بطريق الأبرار(الوقاية. وحيد بالي صـ 62)
7- قال الباحثان الشهيران (ريشارد هودسن، وجيمس هايسلوب) في نتائج دراسة قاما بها: ( إن عددا عديدا من المجانين الذين يحبسون في البيمارستانات ، ليسوا بمصابين بأمراض عقلية ، بل مملوكين لأرواح قد استحوذت عليهم واستخدمتهم ) وهذه بعض النقول الغربية التي توضح أن دلالة الواقع والتجربة العملية تثبت ظاهرة التلبس.(المس الشيطاني وعلاج آثاره د/ محمد المبيض صـ59)
الفصل التاسع : استحباب علاج المصروع
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"إذا عرف الأصل في هذا الباب فنقول :يجوز –بل يستحب ،وقد يجب – أن يذب عن المظلوم وأن ينصر ؛فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان . وفي الصحيح عن أنس قال : قال رسول الله(r) :" انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت : يا رسول الله ،أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟قال: " تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه" رواه البخاري.
وأيضا ،ففيه تفريج كربة هذا المظلوم .وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي (r) قال :" من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ،والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"
وفي صحيح مسلم – أيضا – عن جابر أن رسول الله (r) لما سئل عن الرقي قال : " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل"
لكن ينصر بالعدل كما أمر به الله ، ورسوله ،مثل: الأدعية والأذكار الشرعية) (فتاوى ابن تيمية جـ19 صـ 33)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا فرض على الكفاية مع القدرة فإن كان عاجزا أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام غيره به لم يجب وان كان قادرا وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه "(الوقاية . وحيد بالي صـ 66)
ويقول أيضا :" فهذا من أفضل الأعمال وهو من أعمال الأنبياء والصالحين فمازال الأنبياء والصالحون يدفعون الشياطين عن بني آدم بما أمر الله تعالى ورسوله كما كان المسيح يفعل ذلك ،وكما كان نبينا يفعل ذلك ولو قدر أنه لم ينقل ذلك لكون مثله لم يقع عند الأنبياء لكون الشياطين لم تكن تقدر أن تفعل ذلك عند الأنبياء وفعلت ذلك عندنا فقد أمرنا الله تعالى بنصر المظلوم وإغاثة الملهوف ونفع المسلم" (الوقاية . وحيد بالي صـ 66)
الفصل العاشر :سؤال هام عن علاج المس لابن تيمية
**قد أورد هذا السؤال والجواب العلامة بدر الدين محمد بن عبد الله الشبلي في كتابه (آكام المرجان ) قال : (سئل أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل ابتلى بمعالجة الجن مدة طويلة لكون بعض من عنده ناله سحر عظيم قليل الوقوع في الوجود، وتكرر السحر أكثر من مائة مرة، وكاد يتلف المسحور ويقتله بالكلية مرات لا تحصى فقابلهم الرجل المذكور وبالتوجه والصد البليغ ودوام الدعاء و الالتجاء وتحقيق التوحيد وأحس بالنصر عليهم وكان المصاب يراهم في اليقظة و في المنام ويسمع كلامهم في اليقظة أيضا.
فرآهم في أول الحال وهم يقولون : مات البارحة منا البعض ومرض جماعة لأجل دعاء الداعي وسموه باسمه ،وكان بالقاهرة رجل هائل يقل وجود مثله ،ويجتمع بهم ويطلع على حقيقة حالهم، وله عليهم سلطان باهر فسئل عن حقيقة منام المصاب وعن خبر الدعاء فأخبر بهلاك ستة ومرض كثير من الجن، وتكرر ذلك نحو مائة مرة وتبين للرجل الداعي المذكور أن الله تعالى قهرهم له فإن كان يجد ذلك ويشهده ويعاضده منامات المصاب وسماعه في اليقظة أيضا وأخبار صاحبهم المذكور وبعد ذلك أذعنوا وذلوا وطلبوا المسالمة فهل يجوز للرجل الداعي مواظبة الذب عن صاحب المصاب المظلوم مع تحققه هلاك طائفة بعد طائفة والحالة هذه أم لا ؟ وهل عليه من إثمهم شيء فإنه قد يكون بعضهم مع صياله مسلما أم لا ؟ وهل يجوز له إسلام صاحبه والتخلي عنه مع ما يشاهده من أذاه وقرب هلاكه أم لا ؟ وهل هذا الغزو مشروع وعليه شاهد من السنة النبوية والطريقة السائغة أم لا ؟ وهل تشهد الشريعة بصحة وقوع مثل ذلك كما قد تحققه السائل وغيره من المباشرين والمصدقين أم ذلك ممتنع كما تقوله الفلاسفة وبعض أهل البدع ؟ وهل تجوز الاستعانة عليه بشيء من صنع أهل التنجيم ونحوهم فيما يعانونه من الحجب والكتابة والبخور و الأوراق وغير ذلك لأنهم يتحملون كبر ذلك والمصاب وأهله يطلبون الشفاء وإن كان ذلك كفر فيكون في عنق صاحبه الذي باع دينه بالدنيا وهذا من باب مقابلة الفاسد بمثله أم لا يجوز ذلك لأجل تقوية طريقهم والدخول في أمر غير مشروع ؟
(تلخيص الجواب ):
يجوز بل يستحب وقد يجب أن يذب عن المظلوم وأن ينصر فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان وإذا بريء المصاب بالدعاء والذكر وأمر الجن ونهيهم وإنهارهم وسبهم ولعنهم ونحو ذلك من الكلام حصل المقصود ،وإن كان ذلك يتضمن مرض طائفة من الجن أو موتهم فهم الظالمون لأنفسهم إذا كان الراقي الداعي المعالج لم يتعد عليهم كما يتعدى عليهم كثير من أهل العزائم فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله وقد يحبسون من لا يحتاج إلى حبس ولهذا قد يقاتلهم الجن على ذلك ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه وفيهم من يفعل ذلك بأهله وأولاده أو دوابه.
وأما من سلك في دفاعهم مسلك العدل الذي أمر الله به ورسوله فإنه لم يظلمهم بل هو مطيع الله ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعي الذي ليس فيها شرك بالخالق وظلم للمخلوق مثل هذا لا تؤذيه الجن إما لمعرفتهم بأنه عادل وإما لعجزهم عنه .
وإذا كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه، فينبغي لمثل هذا أن يتحرز بقراءة المعوذات والصلاة والدعاء ونحو ذلك مما يقوى الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يستطيلون عليه فإنه مجاهد في سبيل الله وهذا من أعظم الجهاد فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته فإن لها تأثيرا عظيما في طرد الشياطين عن نفس الإنسان وعن المصروع وعمن تعينه الشياطين من أهل الظلم والغضب وأهل الشهوة والطرب وأرباب سماع المكاء والتصدية إذا قرأت عليهم بصدق .
قال : والصائل المتعدى يستحق دفعه سواء كان مسلما أو كافرا فقد قال رسول الله (r): (من قتل دون ماله فهو شهيد ) وقد روى : دون دمه ودون حرمته ودون دينه فإذا كان مظلوم له أن يدفع عنه ولو بقتل الصائل العادي فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه وقد يفعل معه فاحشة ولو فعل إنسي هذا بإنسي ولم يندفع إلا بالقتل جاز قتله.
وأما إسلام صاحبه والتخلي عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين وهذا فرض على الكفاية مع القدرة فإن كان عاجزا أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام غيره به لم يجب وان كان قادرا وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه .
وقول السائل: هل هذا مشروع ؟ فهذا من أفضل الأعمال وهو من أعمال الأنبياء والصالحين فمازال الأنبياء والصالحون يدفعون الشياطين عن بني آدم بما أمر الله تعالى ورسوله كما كان المسيح يفعل ذلك ،وكما كان نبينا يفعل ذلك ولو قدر أنه لم ينقل ذلك لكون مثله لم يقع عند الأنبياء لكون الشياطين لم تكن تقدر أن تفعل ذلك عند الأنبياء وفعلت ذلك عندنا فقد أمرنا الله تعالى بنصر المظلوم وإغاثة الملهوف ونفع المسلم .
وهذا كدفع ظالم الإنس من الكفار والفجار قد يحتاج في دفع الجن عنهم إلى الضرب فيضرب ضربا كثيرا والضرب إنما يقع على الجني ولا يحس به المصروع ونخبر بأنه لم يحس بشيء من ذلك ولا يؤثر في بدنه ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة وأربعمائة ضربة و أكثر وأقل بحيث لو كان على الإنسي لقتله وإنما هو على الجني والجني يصيح ويصرخ ويحدث الحاضرين بأمور متعددة
قال: وقد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرة.
قال: وأما الاستعانة عليهم بما يقال ويكتب مما يعرف معناه فلا يشرع استعماله إن كان فيه شرك فإن ذلك محرم ، وعامة ما يقول أهل العزائم فيه شرك وقد يقرأون مع ذلك شيئا من القرآن ويظهرونه ويكتمون ما يقولون من الشرك .
قال :و في الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغنى من الشرك وأهله والمسلمون وإن تنازعوا في المتداوى بالمحرمات فلا يتنازعون في أن الشرك والكفر لا يجوز المتداوى به بحال لأن ذلك محرم في كل حال وليس هذا كالمتكلم به عند الإكراه فإن ذلك إنما يجوز إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان .
والمتكلم بما لا يفهم بالعربية إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر والشيطان إذا عرف أن صاحبه يستخف بالعزائم لم يساعده أيضا فإن المكره مضطر إلى التكلم به ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين :
أحدهم : أنه قد لا يؤثر فما أكثر من يعالج بالعزائم فلا يؤثر بل يزيده شرا .
الثاني:أن في الحق ما يغنى عن الباطل.( كلام ابن تيمية ملخصاً) (الوقاية . وحيد بالي صـ 65)